الثلاثاء، 11 أبريل 2023

المقصود بالدساتير المدونة والدساتير غير المدونة

المقصود بالدساتير المدونة والدساتير غير المدونة ورجحان مزايا الدساتير المدونة

ونعالج هاتين المسألتين اللتين يتضمنهما عنوان هذا المبحث في مطلبين مستقلين.

المطلب الأول:

المقصود بالدساتير المدونة والدساتير غير المدونة

أولاً : الدساتير المدونة ( أو المكتوبة) Constitutions écrites


-------------------------------------------------------------------------

--------------------------------------------------------

المقصود بالدساتير المدونة هى تلك الدساتير التى تكون قواعدها وأحكامها مكتوبة في تشريع أو تشريعات صادرة عن المشرع الدستوري في الدولة. فالدستور المدون إذن هو دستور مكتوب يسجل قواعد نظام الحكم في الدولة في وثيقة أو وثائق رسمية، أى فى تشريع أو تشريعات تصدر عن السلطة العليا المختصة في الدولة بوضع الدستور، التى تسمى بالسلطة التأسيسسية الأصلية. فكما نرى الدستور المدون هو الدستور الذي يكون مصدره هو التشريع. ولكن المشرع هنا ليس هو البرلمان أو السلطة التشريعية التى تصدر القوانين العادية، وإنما المشرع هنا هو المشرع الدستورى أو ما يسمى السلطة التأسيسية الأصلية التي تضع الدستور وهو أعلى قيمة ومكانة من القانون العادي. لأن البرلمان الذي يشرع القانون العادى هو مجرد سلطة منشأة يأتى دورها بعد وضع الدستور من السلطة التأسيسية الأصلية، ثم أن البرلمان يعمل في إطار نصوص الدستور الأعلى منه والذى يحدد له نطاق اختصاصه والإجراءات الواجب اتباعها عند إصدارة للقوانين العادية .

وفي العصور القديمة والوسطى حتى القرن الثامن عشر، كانت الدساتير العرفية أو غير المدونة هى السائدة في عموم الدول، إذ كانت قواعد نظام الحكم السياسي وعلاقة الدولة بالأفراد تحددها الأعراف التى استقرت عبر السنين (۱) . ثم ظهرت أول بداية للدساتير المدونة فى نهاية القرن الثامن عشر في الولايات المتحدة الأمريكية فور استقلالها عن الإمبراطورية البريطانية، فبدأت الولايات المتحدة الأمريكية المستقلة حديثاً تضع دساتير مدونة لأنظمة الحكم فيها منذ عام ١٧٧٦م . وبعد ذلك عند اتحاد هذه الولايات وتكوين الاتحاد الفيدرالي للولايات المتحدة الأمريكية، قام ممثلوا شعوب الولايات المتجتمعون في مؤتمر فيلادلفيا عام ١٧٨٧ بوضع الدستور المكتوب للدولة الفيدرالية الأمريكية الجديدة، وهو الذي أصبح يمثل النموذج الهام الأول للاتجاه نحو الدساتير المدونة أو المكتوبة.

وبعد الدستور الأمريكي، جاء أهم دستور مدون آخر في فرنسا عقب نجاح ثورتها عام ١٧٨٩ م ، وهو دستور ۱۷۹۱م الذي نص في مقدمته لأول مرة على اعتبار إعلان حقوق الإنسان للثورة الفرنسية عام ۱۷۸۹م جزءاً لا يتجزأ منه (۲) . ثم تعاقبت دساتير فرنسا كلها فى أسلوب الدساتير المدونة أو المكتوبة حتى الدستور الأخير للجمهورية الخامسة الصادر بناء على استفتاء دستوری عام ١٩٥٨م. وفي وقت لاحق على الثورة الفرنسية وبداية دساتيرها المدونة عمت حركة الندوين الدستورى فى دول أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين، وفي دول العالم الثالث عقب ثورتها التحريرية وحصولها على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية (۱۹۳۹) - (١٩٤٥ ظهرت فيها كذلك الدساتير المدونة التي تضع نظام الحكم فى الدول حديثة الاستقلال. وهكذا أصبح الاتجاه نحو الدساتير المدونة أو المكتوبة هو اتجاه عام مطلق لدى مختلف الدول.

وقد عرفت مصر منذ القرن التاسع عشر الدساتير المدونة، فرغم كونها ولاية عثمانية إلا أن معاهدة لندن لعام ١٨٤٠م قد حولت مركزها الدولي من مجرد ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية إلى دولة ناقصة السيادة، تتمتع باستقلال ذاتي داخلي أي في الشئون الداخلية لمصر، وهو الأمر الذي سمح لها بوضع دساتير مكتوبة تتضمن قواعد نظام الحكم (۱) . وقد أخذت هذه الدساتير تسميات مختلفة - كما سنرى عند دراسة القسم الثانى من هذا الكتاب – فهي كانت تسمى أحياناً القانون الأساسي وأحياناً أخرى اللائحة الأساسية أو القانون النظامي، ولكن تلك الدساتير المدونة كانت تفتقد الروح الديمقراطية العامة التي واكبت ظهور الدساتير المدونة في أوربا عقب الثورة الفرنسية لعام ١٧٨٩م(٢) . إذ كان الحكم فى مصر قبل دستور ۱۹۲۳م يسوده طابع الحكم المطلق والملكية الاستبدادية. ولكن مع إعلان استقلال مصر عام ۱۹۲۲م، ظهر أول أهم دستور مكتوب ذو طابع ديمقراطى وهو دستور ۱۹۲۳ (الذى سيكون محل دراستنا في القسم الثاني) .

الدستور المدون لا يمنع من ظهور عرف دستوري بجواره بصورة استثنائية فالواقع أنه إذا كان الدستور غير المدون لا يمنع من وجود بعض وثائق دستورية استثنائية تكمل الدستور العرفى غير المدون ( كما سنرى) ، كذلك كون الدستور مدوناً أو مكتوباً لا يمنع من أن تتكون بعض القواعد الدستورية بواسطة

هذه الوثائق المكتوبة وغيرها رغم تعددها تبقى مجرد مصادر لقواعد محدودة نسبياً، بالمقارنة للقواعد الأساسية والجوهرية في النظام النيابي والبرلماني والتي تكونت بواسطة العرف . ولذلك يصدق على انجلترا القول بأنها دولة ذات دستور غير مدون بالنظر للوضع الغالب في قواعد نظام الحكم فيها .

المطلب الثاني: رجحان مزايا الدساتير المدونة علي الدساتير غير المدونة

دافع بعض الفقهاء والفلاسنة عن الدستور غير المدون أو العرفي، على اعتبار أنه له بعض المزايا: فمن ناحية أولى هو يعبر عن ماضي الشعب ويربط هذا الماضي بالحاضر، فهو وليد تعاقب الأجيال وروح الشعب بدون أية حاجة لتدوين (١) . ومن ناحية ثانية، وهذه أهم ميزة وأبرزها، الدساتير الغير مدونة نظراً لاستنادها إلى العرف المرن، فهى تتميز بمرونتها وقابليتها بالتالي لمسايرة التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدولة (۳). وذلك على عكس الدساتير المكتوبة التي يعيبها الجمود وعدم مسايرة تطورات المجتمع نتيجة تدوينها في تشریع ستوری جامد. ويرى البعض الآخر أن النقاش فى شأن مزايا كل من الدساتير غير المدونة أو الدساتير المدونة في نقاش نظرى ليس له قيمة عملية، على اعتبار أن الأمر في النهاية مرده إلى ظروف كل دولة ومزاج وعقلية كل شعب، بدليل أنه رغم انتشار الدساتير المدونة مازالت انجلترا تحرص على أسلوب الدستور العرفي غيرالمدون () .

ونحن نرى أنه مع التسليم بأن الدساتير غير المدونة قد تكون لها بعض المزايا، وأنها قد تتجاوب مع مزاج وعقلية وظروف الشعب الإنجليزي، إلا أن الواقع في عالم اليوم يفرض علينا القول بأن الدساتير المدونة أو المكتوبة تفوق بكثير مزايا تلك الدساتير العرفية أو غير المدونة، بدليل أن كافة دول العالم ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، تأخذ اليوم بأسلوب الدساتير المدونة، وانجلترا تبقى الاستثناء الوحيد وبالتالي فهى الاستثناء الذي يؤكد القاعدة كما يقال . أما عن مزايا الدساتير المدونة أو المكتوبة التي جعلت كافة الدول عدا انجلترا تفضلها وتأخذ بها، فهى مزايا عديدة هي ما يلي: من ناحية أولى الدساتير المدونة باعتبارها تصدر في نصوص تشريعية، فهى تتميز بالدقة والوضوح والثبات، ومن ثم يكون من السهل تحديد اختصاصات السلطات العامة وعلاقاتها بالأفراد بالرجوع إلى النصوص الصريحة. على عكس العرف غير المكتوب الذى كثيراً ما يكتنفه الغموض والإبهام . ومن ناحية ثانية ، يتميز ويمتاز الدستور المدون بتحديده الصريح لحقوق

وحريات الأفراد إزاء سلطات الدولة، وضمانات هذه الحقوق والحريات. فمواد ونصوص الدستور المكتوب تكون هى المرجع للشعب والأفراد لإعلاء حقوقهم وحرياتهم إزاء أية سلطة والمطالبة بها أمام القضاء، إذا ما اعتدت عليها الدولة. فالدستور المكتوب فيما تتضمنه نصوصه من حقوق وحريات يربي في المواطن حب الحرية والدفاع عنها. ومن ثم نفهم لماذا اربتطت حركة تدوين الدساتير بانتصار الحرية والديمقراطية في الدول التى كانت فى الماضى تكابد الحكم المطلق الاستبدادي (۱).

التسميات: